Beeah

الروابط الاجتماعية ودورها في أنسنة المدن

 

كيف تتحوّل القرارات التصميمية إلى تجارب عمرانية تُفعّل أنسنة المدن؟

 

تنمو المدن كـ شبكات حية تعكس الوعي الإدراكي لقاطنيها؛ فكل تحوّل عمراني هو نتاج تحول فكري يسبقه. حين كانت الغاية الأساسية للبناء هي الإيواء، كانت البيئة المشيدة أقرب إلى الأنساق الطبيعية؛ بسيطة في كتلتها العمرانية، وواضحة في وظيفتها. ومع هيمنة النموذج التنموي القائم على الكفاءة الاقتصادية، طغى على مفهوم المدينة المنظور التقني حتى تباعدت عن جوهرها الاجتماعي-الإنساني. هنا بدأ التباين بين المنتج التخطيطي المدروس وما تتطلبه الاستدامة الاجتماعية من تفاعل وانسجام يعيدان للمكان دوره الوظيفي. فالفضاءات العامة ازدادت مساحة، بيد أن التفاعلية المجتمعية بها تضاءلت والكفاءة التشغيلية تعاظمت، لكن جودة التجربة الحضرية ضعفت. ومن هذا الفارق المنهجي، وُلدت الحاجة إلى إعادة صياغة المدينة كنسيجٍ حيّ يُبنى على المقياس الإنساني ويُعيد الأسبقية للروابط الاجتماعية  ضمن الأهداف التخطيطية.

 

رسم بياني يوضح شبكة التفاعلات اليومية بين المساكن والمسارات والمرافق والمساحات المشتركة داخل الحي، ودورها في إحياء الحياة المجتمعية
رسم بياني يصوّر العلاقات الاجتماعية والعناصر العمرانية التي تعزز الحياة اليومية داخل الحي

 

 

الخصوصية المحلية: البعد الهويّاتي كمُعزِّز لجودة المشهد العمراني

تُقاس حيوية المدن بقدرتها على احتضان اختلاف ساكنيها، فكل مجتمع يحمل داخله تعددًا في الطبائع والعادات والاهتمامات، والمدينة الواعية هي التي تُترجم هذا التعدد إلى نسيجٍ من العلاقات والتجارب المشتركة وحين يُصمَّم الفضاء العام بمرونة تتيح التعبير عن هذا التنوع دون عزلة، يتحول إلى مساحةٍ حيوية تُعبّر عن روح المجتمع وتُتيح له أن يرى نفسه في مراياه المتعددة

ويظهر هذا المعنى بوضوح في المشهد السعودي الذي يجسّد ثراءً اجتماعيًا وثقافيًا نادراً: فالرياض تُعيد التوازن بين الأصالة وروح العصر؛ وجدة تعبّر عن انفتاحها التاريخي كملتقى للثقافات؛ بينما تبرز أبها نموذجاً للتكامل بين الإنسان والطبيعة بامتزاج العمارة الجبلية بفنونها الشعبية. في حين تعكس مدن الشرقية انفتاحها الاجتماعي عبر فضاءاتها الساحلية، وتقدم العُلا بعراقتها المتجذرة مثالاً على مدينةٍ تصل حاضرها بجذورها وتحوّل الذاكرة إلى تجربةٍ عمرانية معاصرة.

إن هذا التنوع، حين يُقرأ بعينٍ عمرانية، لا يمثل تباينًا في الشكل بل يُجسّد ثراءً هويّاتيًا في المعنى، إذ يمنح كل منطقةٍ بعداً يضيف إلى المشهد الحضري العام ملامحها الخاصة. وهكذا يُعاد تعريف التخطيط بوصفه وسيلةً لتمكين التعدد،

فأنسنة المدن لا تهدف إلى توحيد المظاهر، بل إلى إبراز خصوصية كل مجتمعٍ داخل وحدة البلد، حيث يتحول الاختلاف من تنوّعٍ في الشكل إلى تكاملٍ وانسجام في المضمون، ليرسم ملامح المدينة السعودية المعاصرة.

صورة تظهر تنوع الهوية العمرانية في مدن سعودية مثل الرياض وجدة والعلا وعسير تعكس مفهوم أنسنة المدن والتخطيط الحضري

الأداء الحضري المُرن: دور تكامل الاستخدامات في تفعيل الفضاء العام

لم تنشأ فكرة تنوّع الاستخدامات في هذا العصر، بل تعود جذورها إلى بدايات التحوّل الحضري في القرن التاسع عشر، حين سعت المدن إلى الجمع بين النشاط الاقتصادي والبعد المجتمعي في نسيجٍ واحد غير أن هيمنة النموذج الوظيفي آنذاك أدّت إلى تفكيك هذا الترابط، فتحوّل العمران إلى وحداتٍ معزولة فقدت تفاعلها الطبيعي. ومع مرور الزمن، تبيّن أن المدينة التي تُدار بوظائف منفصلة تفقد حيويتها الاجتماعية، بينما تلك التي تتكامل فيها الأدوار تبقى أكثر مرونةً واستدامة

واليوم، تُستعاد هذه الرؤية بوصفها نهج حضري يُعيد للتخطيط توازنه الإنساني، إذ تُعد المساحات متعددة الاستخدامات وسيلة لإحياء الدور الاجتماعي للمكان وتعزيز الصلات بين الأفراد والمحيط. فهي تُنتج بيئاتٍ مرنة تُشجّع على المشاركة وتُعزز الإحساس بالانتماء، فيغدو الفضاء العام ساحةً للتفاعل والنمو المشترك. ولا تكمن قيمتها في تعدد الوظائف فحسب، بل في إعادة تعريف مفهوم القرب المكاني داخل المدينة؛ قربٍ لا يُقاس بالمسافة، بل بما يولّده من قيمة ومعنى اجتماعي. فالعمران لا يزدهر باتساعه، بل بحياة من يسكنه، وحين تُصمَّم الأمكنة لتحتوي هذا الحضور، تصبح المدينة أكثر قدرة على التعبير عن ذاتها كمُكون وظيفي أساسي للحياة المجتمعية.

 

الأثر العائد للمساحات الخضراء: العلاقة بين الصحة النفسية ونسيج المدينة

في الوعي العربي الإسلامي، لم تكن الحديقة مجرّد مساحة خضراء، بل فلسفةً عمرانية تعبّر عن التوازن البشري-البيئي. فمنذ الحضارة الأندلسية، حين ازدهرت حدائق الحمراء وجنّات العريف، تكرّس مفهوم المكان الذي يجمع الجمال والسكينة الإنسانية، والماء بالظل، والكتلة العمرانية بالروح. هناك صيغت الطبيعة لتكون امتدادًا للنفس، لا زينةً لها، وغدت الحديقة مرآةً للاتساق بين السماء والأرض، بين ما يُرى وما يُحسّ.

وحين غابت هذه الفلسفة عن المدن الغربية في زمن الثورة الصناعية، واختنق العمران بالدخان والضجيج، أدرك المخططون أن المدينة التي تُقصي العنصر الطبيعي تُقصي الإنسان أيضًا، فأنشؤوا الحدائق العامة بحثًا عن التوازن الذي كانت مدن الإسلام قد عرفته منذ قرون. وفي التجربة السعودية المعاصرة يتجدّد هذا الوعي بروحٍ جديدة، حيث لم تعد الخُضرة مُكوّناً بصرياً فحسب، بل جزءاً من هندسة الحياة الحضرية. فالمساحات الخضراء تُنعش الإيقاع اليومي للحياة، والممرّات المظللة تُعيد للساكن صفاءه الجسدي والنفسي، والمشهد الطبيعي يُصبح أداة تفاعلٍ تُقوّي ارتباط المستخدم بمكانه. وهكذا تُصبح الخُضرة لغةً عربيةً قديمةً تُروى من جديد بلسانٍ حديث، تُذكّرنا أن المدينة التي تتنفس بطبيعتها هي المدينة التي تحفظ إنسانها.

 

المدن الخضراء: منهجية الاستجابة للتحديات المناخية في التخطيط

في هذا الإطار، تتجلى الجهود الوطنية لترسيخ الوعي البيئي في تخطيط المدن السعودية، حيث لم تعد العلاقة بين البيئة والعمران مجرد بعد جمالي، بل محور استراتيجي لرفع جودة الحياة. ومن أبرز هذه الجهود مبادرة “المدن الخضراء” التي أُطلقت عام 2021 ضمن برامج رؤية السعودية 2030، وذلك كاستجابة منهجية لتحديات التغير المناخي وتأثيره المباشر على أنماط الاستخدام في المدن. وقد أدى ارتفاع درجات الحرارة وتراجع الغطاء النباتي إلى تدني استخدام الفضاءات العامة وإضعاف فرص التفاعل الاجتماعي فيها.

تهدف المبادرة إلى إعادة دمج الطبيعة داخل النسيج العمراني عبر زيادة الغطاء النباتي وتفعيل المساحات المفتوحة بوصفها عنصر وظيفي في التصميم الحضري، بما يسهم في تحسين المُناخ الجزئي وتوفير بيئات مريحة للأنشطة اليومية. ومع توجيه الظلال وتنظيم تدفق الهواء واختيار النباتات المحلية، يصبح النموذج التصميمي أكثر انسجاماً مع طبيعة المكان وإيقاع الحياة فيه. ولذلك، تكون مبادرة المدن الخضراء مثال واقعي على تطور الفكر العمراني نحو الإنسان؛ مُؤكدةً أن كفاءة المنهجية التخطيطية هي مفتاح استدامة الاتزان الحضري.

 

إستراتيجيات التخفيف من العزلة الحضرية: دور التصميم السكني في التمكين الاجتماعي

يُقاس نجاح النموذج التخطيطي السكني بقدرته على بناء بيئة تُشجّع على التواصل التلقائي بين السكان، مع مراعاة مستويات الخصوصية. فالسكن ليس مجرد وحدات معمارية للإيواء، بل هو منظومة عمرانية تُنظّم التفاعلية بين الفرد، الفضاء العام، والخدمات المساندة. ومع هيمنة أنماط التصميم المنعزلة في المدن الحديثة، تراجعت فرص اللقاء وتلاشت ملامح الانتماء، مما أنتج أجيالاً تنشأ في بيئاتٍ تفتقر إلى الذاكرة المجتمعية.

أما إستراتيجيات التخطيط التشاركي، فتعيد تعريف الحيّ بوصفه مجتمع صغير متوازن، تتقاطع فيه الحركة اليومية مع مساحاتٍ مشتركة تُحفّز التفاعل. فعناصر هندسة الحي السكني، كالممرّات الرابطة، والساحات المخصصة للأنشطة، ونقاط الخدمة الموزعة، كلها تُعيد للحيّ وظيفته الاجتماعية وتُثري تجربته الحضرية. وعندما تُوزّع الخدمات بطريقة تراعي معايير القرب وسهولة الوصول يصبح الحيّ  أكثر ترابطاً وأقل اعتماداً على التنقّل الآلي. فالتصميم السكني الناجح لا يُقاس بفخامته أو اتساعه، بل بقدرته على أن يترك في نسيجه فراغًا يمرّ منه الحوار.

 

منظومة التخطيط الذكي: مواءمة الكفاءة التشغيلية مع الغاية المجتمعية

في الفكر العمراني الواعي، تُعدّ التقنية الرقمية وسيلةً للحفاظ على الروابط الاجتماعية وتعزيزها. فأنسنة المدن لا تنفصل عن التحوّل الرقمي المتسارع، بل تُدرجه ضمن منظومة التخطيط الذكي التي تهدف إلى المواءمة بين الكفاءة التشغيلية للمنظومة واستدامة حيوية المجتمع. ويتطلب هذا الوعي استيعاب المتغيّرات المستقبلية وتصميم البنية التحتية الرقمية منذ مراحل التصميم الأولى.

وعندما تُدمج التقنية بهذه الرؤية، تتحول من أداةٍ تشغيلية إلى آلية تحفيز تنظم التفاعل وتُهيّئ فضاءاتٍ أكثر مرونة وقابلة للتكيف مع إيقاع الحياة. فالتحليل الإنساني للتصميم لا يُعالج الوضع الراهن فحسب، بل يتوقّع التبدلات ويُدرج حلولها في صلب النموذج التخطيطي لضمان استمرارية الروابط مهما تبدّلت الوسائل. فحين تُصمَّم المدن بهذا الوعي، تصبح التقنية امتداداً للمنهجية الإنسانية، حيث تتقدم الغاية المجتمعية على تفعيل الأداة التكنولوجية.

 

تصميم البيئة متكاملة المراحل: موازنة الاحتياجات الحركية والنفسية عبر دورة الحياة

في الفكر العمراني المعاصر، يُنظر إلى العمر بوصفه مُتغيراً سوسيوديموغرافي من إيقاعات الحياة في المدينة، لا فئةً معزولة عنها. فالمدينة التي تستوعب اختلاف المراحل العمرية وتمنحها فضاءً اجتماعي يفتح للحركة والعيش، تُنشئ توازناً اجتماعياً-إنساني مستدام. حين يتقاطع لعب الأطفال مع أنشطة كبار السن في الساحات، وتُصمَّم عناصر الأثاث الحضري لتتيح التفاعل لا الفصل، يتحول المكان إلى بيئة متكاملة المراحل تُعيد صياغة معنى المجتمع في النموذج التخطيطي.

فالتحدي الحقيقي لا يكمن في توفير مرافق أحادية الوظيفة لكل شريحة، بل في هندسة الفضاءات المتعددة الأغراض التي تجمعها دون المساس بجودة التجربة لكل مستخدم. مكان يجد فيه الكبير راحته المُريحة وظيفياً والطفل فضوله، فيتشاركون إيقاع المدينة من منظورين متكاملين. وبذلك يصبح التصميم أداة وصلٍ بين المراحل العمرية، إذ يتحول العمران إلى إطار ثقافي يُدرك ديناميكية دورة الحياة ويترجمها إلى تفاصيل تُوازن بين متطلبات الراحة الحركية والتحفيز النفسي. وحين تُبنى المدن بهذا الوعي، تغدو قادرة على احتضان الزمن الاجتماعي في نسيجها، مما يعزز قيمة الانتماء ويُرسخ قوة الحضور لجميع الفئات.

 

الذاكرة المشتركة: دور المنظومات الثقافية في إرساء قاعدة للروابط المجتمعية

في الفكر العمراني الواعي، لا يُفصل بين المُكوّن الثقافي والمجتمع؛ فالتعبير الثقافي يُعد جزءاً من البنية التحتية الاجتماعية ووظيفتها، يعكس وعي المكان بذاته وبمن يعيش فيه. فحين تُدمج المرافق الثقافية المحورية كالمسارح والمكتبات والمتاحف والمعارض في النسيج الحضري، تتحول من منشآت معزولة إلى منصات للتفاعل الاجتماعي تُجسّد قيم الناس وتطلعاتهم.

وتبرز في مدن المملكة نماذج رائدة لهذا الوعي، من أبرزها مركز الملك عبدالعزيز التاريخي في الرياض، حيث يتكامل العمران والثقافة في بيئة تعيد تعريف العلاقة بين المعرفة والمكان. وفي السياق نفسه، يقدّم متحف البحر الأحمر في جدة مثالاً على استعادة الذاكرة الحضرية وربطها بالحوار الثقافي؛ فكلا المشروعين يُظهر كيف يمكن للثقافة أن تكون عنصراً مُشغِّلاً في صياغة هوية المدينة المعاصرة.

تُسهم هذه الفضاءات النشطة في تعزيز التواصل بين فئات المجتمع، وتخلق لغة مشتركة تُظهر ما يجمعهم. فهي لا تعبّر عن الذوق الجمالي فحسب، بل تكشف عن مستوى الوعي المجتمعي، وعن قدرة البيئة الحضرية على استيعاب الاختلاف. وعلى نطاق أوسع، تُعد هذه المنظومات بوابة الزائر لفهم هوية المدينة ومسارها الحضاري؛ فالزائر يقرأ المكان من حراكه الثقافي والمؤسسات التي تختصر ذاكرته وحين يُهمَل هذا البعد، تضعف أصالة المدينة في الذاكرة الجماعية. أما حين تُدرج الثقافة في النموذج التخطيطي بوعي، فإنها تضمن استمرارية حوارها الزمني وفاعلية معناها.

واجهة مركز الملك عبدالعزيز ومتحف البحر الأحمر كجزء من مشاهد حضرية تعزز الروابط الاجتماعية وتساهم في أنسنة المدينة
صورة مشهد حضري يبرز دور المعالم الثقافية في تعزيز التواصل الاجتماعي داخل المدينة

 

إن أنسنة المدن تُعدُّ منهجية تخطيطية لا غنى عنها لضمان الاستدامة الحضرية وتحقيق العائد على الاستثمار الاجتماعي وتتجلى هذه الرؤية في التجربة السعودية كـ إطار استراتيجي يُعلي من شأن الروابط الاجتماعية كأولوية في التنمية. فالتطور العمراني قوته لا تُقاس بالمقاييس الكمية للمشاريع، بل بكفاءته في بناء منظومة متماسكة تُجسّد التنوع الهويّاتي وتستوعب متطلبات المستقبل. وهكذا، تتمحور المعادلة التخطيطية حول: أن المدينة جوهرها ليس كتلاً عمرانية، بل هي شبكة من التفاعلات المجتمعية. وحين ينجح النموذج التشاركي في صيانة هذه الشبكة، فإنه يضمن استدامة حيوية للمستقبل الحضري.